«46» دعوى وجوب طاعة الحاكم
وخلاصة القول أن توفير المعرفة ليس دليلا قويا على الولاية. وإذا دل عليها فان الدلالة محدودة في زمن حضورهم ومكانه، وليس وراء ذلك. أما الإشارة إلى بعثة الأنبياء فهذا بعيد عن الموضوع لان البعثة غير الإمامة وأدلة البعثة غير أدلة الإمامة والربط بينهما غير صحيح البتة.
بعبارة اخرى فان المستوى الاول من الطاعة تابع للصفة الدينية لشخص الحاكم، اما المستوى الثاني فتابع لأصالة النظام وسيادة القانون الضرورية للحياة المدنية.
يهمني هنا الاشارة الى مسألة جدلية تتعلق بطاعة القانون. وهي من المسائل التي لم تنل اهتماما مناسبا في الفقه الشيعي خاصة. بالنسبة للفقه السني فقد عولجت المسألة بمنح المتغلب حق الطاعة طالما لم يظهر كفرا بواحا. وأورد الامام ابو حامد الغزالي «ت 555 هـ /1111م» مجادلة لطيفة توضح هذا المعنى:
لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة، وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق، حكمنا بانعقاد إمامته. لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر، يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة. فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها. كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً، وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال. ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة.
فالغزالي هنا ينظر الى المسألة الجوهرية في النظام الاجتماعي اي الاستقرار والسلم الأهلي. وهو يرجح ضرورة النظام على نوعيته وصفاته. في سياق مماثل، تحدث الشريف المرتضى والشيخ المفيد وفقهاء آخرون عن صحة العمل مع السلطان المتغلب، شرط القيام بالحق والعدل وعدم المشاركة في الظلم. وذكر آخرون جريان تصرفه في المال العام اذا اقتضت مصلحة المسلمين. ويستفاد من هذه الأقوال تجويزهم طاعة المتغلب، اذ لا معنى لتصحيح تصرفه وجواز العمل معه، ما لم تكن طاعة أمره مشروعة، سواء بالذات او بالعرض.
والغرض من هذا الاستعراض الموجز، هو بيان ان مسألة العلاقة مع الدولة، كانت دائما مشوبة بالاشكال الناتج عن غيبة الحاكم العادل الجامع للشرائط. لكننا الآن في طور جديد. فمفهوم الدولة تغير جوهريا ولم يعد ”رئيس الدولة“ صاحب ولاية كلية او سلطة مطلقة او حاكما بأمره في كل شأن. لقد تحولت الحكومة الى مؤسسة كبيرة جدا، وهي قائمة بأجهزتها ومؤسساتها ونظام عملها، وليس بشخص رئيسها. ولهذا قد يحصل ان يتعذر تعيين رئيس لها «كما جرى في لبنان منذ أواخر 2014 حتى نهاية 2015». لكن الحكومة تبقى قائمة من دونه. وهذا أحد الشواهد على ان الرئيس لم يعد له تلك الصفة أو السلطة أو الاهمية التي نعرفها في الابحاث الفقهية.
من هنا فان مفهوم طاعة الحاكم في هذا العصر، لا يشبه أبدا المفهوم المطروح في نقاشات الفقهاء او الروايات التي ينقلونها. المواطن في هذا الزمان لا يخضع للحاكم، بل للقانون الذي يعبر عن الارادة العامة في الصورة المثالية، أو يعبر عن نظام الدولة في الصورة الدنيا. اما القول بان القانون يجسد ارادة شخص الحاكم، وان طاعة القانون تساوي طاعة الحاكم، فهذا قد يصح في عدد قليل جدا من الدول الحديثة، وهو من نوع الاستثناء الذي لا يعتنى به.
وبناء عليه فاني أرى ان طاعة القانون الوطني واجب دنيوي. وهي من اركان الحياة المدنية والاستقرار، وان من يخالف القانون الصادر وفق أصول صحيحة تضمن العدالة، يستحق العقاب. ولا يستطيع الدفع بعدم استناد القانون الى نص معصوم او اجتهاد فقيه. لأن الارادة العامة فرض على الجميع، تحقيقا للمصلحة العامة الواجبة الرعاية.