«48» مكانة المعصوم واشكال الغلو
نتيجة لذلك التقديس، فقد تشكل نوع من التقييد على الافكار والاراء الجديدة. كل فكرة او رأي جديد، يحاكمه صاحبه ويحاكمه الآخرون الى آراء الماضين واجتهاداتهم. فما لم يطابق تلك الاراء العتيقة، فهو منبوذ ومرفوض، مهما كانت قيمته العلمية. هذا عامل مؤثر في ابقاء علم الدين متأخرا عن زمنه، ومربوطا الى الماضي بحبل متين، بدل ان يكون معبرا عن حاضر المسلمين وحاجاتهم، وبدل ان يكون متفاعلا مع ما توصلت اليه البشرية من علوم ومناهج جديدة.
أميل الى الظن بأن مفهوم العصمة الذي تحدث عنه متكلمو الشيعة القدامى، متأثر بنظرية الكمال الانساني التي اقترحها الفيلسوف اليوناني ارسطو «ت 322 ق. م». وقد لقيت رواجا بين المفكرين المسلمين، ولا سيما في اعمال محي الدين بن عربي، الفيلسوف والمتصوف المعروف في القرن الثالث عشر. وقد نقلت في كتاب ”حدود الديمقراطية الدينية“ موجزا للمقارنة التي عرضتها جين كلارك عن فكرة الانسان الكامل عند ارسطو وابن عربي «ت - 1240». وخلاصة راي الفيلسوف اليوناني ان كل انسان قادر على بلوغ درجة الكمال، اذا طور قدراته الذهنية وبات قادرا على تنمية الحسن والصفات الحسنة في نفسه من خلال المعرفة، لا سيما الفلسفة.
اما ابن عربي فرأى ان العلم نور يقذفه الله في القلب الصافي من حب الاغيار. فالقلب هو النقطة التي تلتقي عندها جميع مكونات روح الانسان من تخيل وتعقل واحساس، فاذا التقت هذه الاجزاء وترابطت، واذا صفت الروح واستسلمت، تجلى نور الله في قلب المحب العارف، فاوصله الى درجة الكمال وتحقق الغرض من الخلق.
وتجد مقاربة من هذا النوع ايضا عند الشهيد الثاني زين الدين العاملي، الفقيه الشيعي «ت 1557». ويمكن القول بصورة اجمالية ان عددا كبيرة من المتكلمين والفلاسفة في ايران، قد تبنوا فكرة الانسان الكامل. ومن بينهم على الخصوص صدر الدين الشيرازي وحيدر املي والفيض الكاشاني. وذهب الشيرازي الى ان الله اختار الانسان خليفة له في ارضه، وجعل سعيه الى الكمال اعلى مراتب الطاعة له. فاذا اجتهد الانسان في هذا الطريق حتى بلغ غايته، بات أهلا لنيل خلافة الله سبحانه. وتعتقد آن لامبتون وهي مؤرخة بريطانية متخصصة في تاريخ ايران، ان مراكز العلم الشيعية تعرفت على أفكار ارسطو من خلال اعمال الكليني وابن بابويه، وهما من المحدثين البارزين في القرن العاشر الميلادي. وان الرجلين جسرا الفجوة بين الفكر السياسي الاسلامي، وما وصل اليهم من الأعمال المترجمة لفلاسفة اليونان.
بعد هذا الاستطراد أقول ان مفهوم العصمة الجبرية، اي العصمة التامة في الافعال والاقوال، منذ الولادة وحتى الوفاة فيه تكلف كبير، وهو غير مفيد. نظرا لأن علة وجود الامام والمرشد هو الاقتداء به من قبل عامة الناس. فاذا كان مختلفا عنهم في التكوين والخلقة، فليس حجة عليهم لأنه غير مختار.
اما المفهوم الذي يبدو معقولا فهو العصمة التي تقارب معنى الكمال، اي ترويض النفس على المعرفة والاستقامة التامة، حتى يصفو القلب والعقل. وهذا مفاد الكلام المنسوب الى الامام علي بن ابي طالب: ”وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق، ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة“. أرى ان هذا المعنى أقرب الى العقل. ولم أجد ما يعارضه تاريخيا ونظريا. وعلى أي حال فان الجدل في هذا الموضوع، لا يقلل من أهمية الامامة وموقعها، ولا يقلل من فضائل الائمة أو صفاتهم او مكانتهم.
”ليس بعيدا الاكتفاء بالأخير، على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم . فإن كثيرا منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار. يعرف ذلك من تتبع سيرهم وأحاديثهم. وفي كتاب أبي عمرو الكشي رحمه الله جملة مطلعة على ذلك. مع أن المعلوم من سيرتهم
مع هؤلاء أنهم كانوا حاكمين بإيمانهم بل عدالتهم“.
هذا النص يوضح ان الشهيد العاملي لا يرى ان مخالفة التيار العام في صفات الائمة، سبب للخروج من المذهب. ودليله على هذا فعل الائمة انفسهم. ونعرف من شواهد تاريخية عديدة وموثقة ان بعض أعاظم الشيعة عارضوا رأي الامام، ومع ذلك فلا الامام نهرهم، ولا علماء الشيعة اعتبروا تلك المعارضة منقصة فيهم، أو سببا للتهوين من قدرهم. وقد أشرت في جواب سابق الى ما كتبه حجة الاسلام كديور وآية الله صالحي نجف آبادي في هذا الصدد. فليراجع من طلب التفصيل.