«67» الدولة الدينية والدولة المدنية
ومن هنا كان المتجادلون يتحدثون عن مفاهيم مختلفة. هذا يدعو لدولة دينية لها مفهوم غير الذي في ذهن الآخر، وذاك يدعو لدولة مدنية بمفهوم غير الذي يعرفه الأول. انه - بعبارة اخرى - اشبه بحوار طرشان، يسمع كل متحدث صوته ولا يسمع الآخر. اما السبب في جريان النقاش على هذا النحو فهو كثافة الاستقطاب الحزبي والتياري في بلادنا. ثمة فريق اعتبر كل دعوة للدولة الدينية دعما للاخوان والتيار الديني المتشدد، بينما اعتبر الفريق الآخر ان كل حديث عن الدولة المدنية هو دعم للاتجاه الليبرالي المعارض. وهم لا يقولون هذا صراحة. فالتيار الديني يتهم دعاة الدولة المدنية بالعلمانية والتغريب والعمالة للاجنبي. والتيار المعارض له يتهمه بالتطرف ومحاولة اعادة المجتمع الى القرون الوسطى.
ولهذا لم نستفد من ذلك الجدل، كما لم نستفد من معظم جدالاتنا السابقة.
بعد هذا الاستطراد اعود الى سؤال: هل يمكن تطوير مفهوم لدولة مدنية حديثة على ارضية القيم الدينية؟. الجواب ان ذلك ممكن بقراءة حديثة للنص والتجربة الدينية، تلتزم بالقيم الدينية والانسانية الكبرى، وليس باجتهادات السابقين وتصوراتهم. ابرز القيم التي تستهدف الدولة المدنية تحقيقها هي تمكين الانسان من السيطرة على اقداره وصناعة حياته على الوجه الذي يحقق سعادته. وأبرز الوسائل التي تتوسل بها لتحقيق هذه الغاية هو إقرار الحريات المدنية، جعل المجتمع سيدا للدولة، والتعويل في كل ذلك على نظم ومؤسسات قانونية معيارية. بديهي ان مثل هذه الأهداف والوسائل لا تتعارض مع اي قيمة دينية.
مواضع التعارض المدعاة جاءت غالبا من اجتهادات فقهية تتعلق بجزئيات وموارد فرعية، مثل: هل نعتمد في وضع القانون على النص الديني ام اجتهادات الفقهاء ام البرلمان. ومثل هل نختار الولاة والحكام بالانتخاب او اختيار اهل الحل والعقد او التغلب. وثمة موارد اصغر من هذه لكنها تثير جدالات اكبر، مثل حرية الاعتقاد والممارسة الدينية لغير المسلمين في بلاد الاسلام، ومثل مدى تدخل الدولة في حياة الناس الشخصية، ومثل عمل المرأة ومساواتها مع الرجال والزامها بالحجاب.. الخ.
لقد قيل كلام كثير في التعارض بين الاسلام والديمقراطية واستحالة التواؤم بينه وبين الدولة المدنية. لكن هذه الدعاوى كلها مبنية على التصور التراثي للاسلام، وهو غير مفيد في هذا العصر ولا هو ملزم للمسلمين المعاصرين. كما انه متأثر بالصراع السياسي بين الاسلاميين ومنافسيهم، وهي مبررات لا تكفي لمعالجة قضية بهذه الاهمية.